2 ـ شؤون وشجون "الصدق والصراحة"
وقبل الاسترسال في قراءة الرسالة
التي داعبت بها الأستاذ لا بد من نشر رسالة عثرت عليها أمس بين أوراق، لها علاقة
بالكتاب وإعداده للطبع.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأستاذ الجليل
تحية مضمخة بعبير التقدير
والاحترام، وبعد:
كتبت إليك هذه الأسطر، كما طلبت
مني، أخبرك فيها كيف فعلت حتى قدمت الكتاب إلى المطبعة، وأرجو أن تكون في أحسن
حال.
وبعد مغادرة تارودانت ذهبت إلى
تكوين حيث كتبته على الحاسوب لدى صديق لي في ظرف أربعة عشر يوما. ثم عدت إلى الدار
فأرسلت إلى صديق بالرباط أن يبعث إلي برقم الإيداع والقانون الدولي اللذين يسحبهما
من الخزانة العامة بالرباط فسحبهما مشكورا، ثم اتصل بي في الهاتف وقال: بعد أسبوع
سأزور البلدة وسآتيك به.
وفي نهاية الأسبوع قال: لن آتي إلا
بعد أسبوع، وفي آخر الأسبوع الثاني اتصل قائلا: معذرة عن عدم مجيئي، وغدا سأتصل بك
لأعلمك هل آتي أم لا، لأني مشغول جدا.
ثم انقطعت مكالمته خمسة عشر
يوما، وما زلت أنتظره.
أما المطبعة فقد ذهبت إلى مطبعة بأكادير، فطلبوا
مني 33 درهما لكل نسخة، ثم ذهبت إلى أخرى فطلبوا 20 درهما، وبقيت المطبعة الرئيسة
لم أزرها بعد، وسأفعل حين أحصل على رقم الإيداع والقانون الدولي.
هذا وقد خاس أشخاص وعدوني
بالمساعدة على طبع الكتاب ـ خاسوا بوعودهم، أحدهم ملعونا لأنه مجرد منافق، والثاني
معتذرا لأسباب اقتضت ذلك ـ ولا أظنه صادقا ـ والثالث مفلسا أو متهاونا، والرابع
واجدا علي لأمر أجهله!! والحق أنه لا يملك إلا الوعود فسخا بها!! وبقي آخرون وهم المعول عليهم ، لم أستنجزهم
بعد ما وعدوا، وسوف أخبرك في رسالة قادمة هل هم أحرار ينجزون ما وعدوا أم هم أنجاس
مناكيد، والسلام.
حاشية: أذكر أن أحدهم
أعطاني 1500 درهم والثاني 500 درهم. والكتاب كلفني 17500 درهم. ومن الناس من حذرني
من طبعه لأنه سيرهقني دينا، ولكني اتكلت على الله فاقترضت 14 ألف درهم، ولم أؤدها
كاملة إلا بعد عام أو يزيد، فخرجت من طبعه وتوزيعه لا علي ولا لي.
وبعد: قرأت كتاب الإبهام الذي
أهديت إلي فاطلعت فيه على ما حيرني وأحزنني وأضحكني من أمر هؤلاء الشعراء وحماقتهم
وفكرهم وتفاهتهم وإبداعهم وإبهامهم وتوجهاتهم، فرأيتني إما عاقلا بين الحمقى، وإما
أحمق بين أولي الألباب، فرجعت لنفسي واتهمت حصاتي، وقلت: هذا شعر لم أفهمه، والحكم
يأتي بعد الفهم، وإذن فالتسليم لهم أولى، ولما أدركت أن الحق معهم كتبت موضوعا
أثبت فيه أنني عاقل مثلهم إن لم أكن أعقل منهم!!.
وأحيطك علما أنني لم أفكر فيه لأن
الأدب الحديث يشينه التفكير، وإنما هي ارتسامات أو حماقات إن شئت أوحتها إلي قراءة
الكتاب فقيدتها.
نعم هذا بحث كالهذيان أو هذيان
كالبحث حول شعر "ما بعبل الحداثة" أكشف به دروبه ومتاهاته، وأبين جذوره
وتوجهاته، وأضع معالم في الطريق كيما يهتدي بها القارئ لاستخراج الكنوز المدفونة
في أرضية هذا الشعر.
البعدية:
إذا كان القصد من الشعر فيما مضى
الإطراب أو تسجيل الوقائع أو الحماسة.... فإن وظيفته الآن أسمى وأجل، فلم يعد
مجديا في هذا العصر أن تقول شعرا ليقال لك: أحسنت!! لا فض فوك!! فهذه السطحية لا يقصدها إلا المجانين
والحمقى (1) بعد ما تحرر الشعر من قيود العقل والعاطفة والخيال، وأصبح كما قال أحد
النقاد: "نوعا من الحمق"(2) أو كما قال الشاعر الكونغولي سيندي بعباع:
"استدبار للمستقبل، وتنبؤ بالماضي وانكماش عن الحاضر" (3) فهذا يعني
الغوص في اللازمان واللامكان لاستخراج ما يسميه أحد منظري هذا الشعر : علي بارون:
"كنزية البعبلية"(4).
لنأخذ مثلا هذه الأبيات للشاعر
الزمبابوي كاطباب من قصيدته الرائعة: "الخواء"(5).
يا طير لا تغرد!
أنا أسمع.
أكره التغريد
ما لم يكن بي صمم.
تبدو الأبيات متناقضة، ولكن للنظرة
السطحية، أما إعادة النظر فيها مرارا فتكشف عن عالم موار بالحياة والأخيلة، لأن
الشاعر غاص في اللاوعي فانثالت عليه معان لا تستطيع لغة البشر أن تحتويها،
فتجاوزها إلى لغة الملائكة فوجدها أعجز!
ثم أعاد الغوص فتمكن من تسجيل هذه
الأبيات الحافلة، هل يقصد الطائر المعروف ذا الجناحين: الشحرور مثلا؟ لا، لأن هذا
الطائر خاطبه الشعراء مسطحو الرؤوس كثيراٍ! فهو إذن يقصد طائرا يرفرف في "لاوعيه" بإلحاح وإزعاج،
فلم يهدأ شاعرنا حتى اقتنصه ووضعه أمام القارئ! وبما أن الكلمة في البعبلية، كما قال أحد النقاد البارزين، تموت
قبل أن تولد فإن الطائر بعد اقتناصه لم يعد ذلك المزعج في اللاوعي، بل أصبح طائرا
عاديا، لذلك خاطبه الشاعر بقوله: لا تغرد! أي لا تدق، وهذا يعني أن الطير لا يقصد به شاعرنا إلا القلب،
وهكذا ينقلك الشعر من جو ممتع إلى آخر أشد متعة.
لماذا لم يقل: لا تدق؟ لأن الكلمة
كما سلف تموت قبل ولادتها، فقد يتغير مفهوم الدق قبل أن يستمتع به القارئ! أما التغريد فلن يتغير لأن
الطائر استمسك به ظاهرا وباطنا.
أما قوله: "أنا أسمع"
فيعني أنا أحيا أي يا قلب كف عن دقاتك لأني حي، والتغريد أو دقات القلب لا تعجبني
إلا إذا كنت أصم أي ميتا، فالشاعر يحب الموت وهو حي، ويحب الحياة وهو ميت، وهذا
معنى جميل، ولكن لم نظفر به إلا بعد تمنع ومماطلة، أضفت عليه جمالا فوق الوصف.
على أن ما ذكرته أحد المعاني
المحتملة، لأن شعر البعبلية لا يتقيد بمعنى واحد، فللقارئ أن يستخرج منه ما استطاع
من معان لا تنفد(6).
وللشاعر قصيدة أجمل من السابقة
عنوانها: "زيتي" نقتطف منها ما يأتي:
شرب الطفل
من زيتي
انتهرته:
أليست لك أم؟
أجاب:
هي لا تعطيني شيئا! !
وقد سئل عن معناها الناقد النيجيري
طوبالكي في حوار أجرته معه جريدة الليل التي تصدر في مالي، فأجاب: "لم أقرأ
بعد ما كتبه العقلاء، لأتفرغ لهذيان الحمقى! !" (7).
واضح أن هذا منه حسد وجهل، والمرء
عدو ما جهل. وللشعر معنى عميق، خفي على الزنجي فعاداه!
ولو أن الشاعر كاطباب نشر ديوانا
من ألف صفحة، ولم يكتب فيه إلا ثلاث كلمات من هذا الشعر: شرب في الصفحة الأولى،
والطفل في الصفحة الخمسمائة، ومن زيتي في الصفحة الأخيرة لأحسن إلى شعر البعبلية،
لأن القصد هو إثارة القارئ للمشاركة والتفاعل ليملأ الصفحات البيضاء لا تنويمه وإمطاره
بوابل من الأبيات والكلمات واضحة الدلالة، ليس لها حظ من البلاغة العصرية أعني
الغموض غير الفني أو الإبهام المتعمد!
قلت: للشعر معنى عميق، وذاك
لملازمتي الطويلة لآثار هذا الشاعر الكبير، فقد قرأت ديوانه "أكاذيب"
أزيد من مائة مرة، وفي كل مرة أكتشف فيه المزيد والمزيد، أذكر أن قسيسا قال لي
يوما، وقد رأى في يدي ذلك الديوان: لو لازمت الإنجيل ملازمتك للأكاذيب لأصبحت
قديسا! فقلت: ولني قفاك، أيها القس! إن كتب كارل ماركس أحب إلي من إنجيلك أو أكاذيبك، فانزوى وهو يرسم
صليبا على صدره العريض!
وليس خافيا لدى المتذوقين لشعر
البعبلية أن "الطفل" هو الخيال بجامع الخفة والطيش وعدم الانضباط، أما
الزيت فهو الدماغ بجامع السيولة في كل منهما، ولا تقل: الدماغ ليس سائلا، لأنه
يعني أدمغة شعراء الحداثة والبعبلية، وإن لم تصدق فاقرأ شعرهم يتبين لك أن أدمغتهم
رجراجة، لا تتماسك. وشاعرنا الكبير ينكر على خياله التجاءه إلى عقله، لأنه بذلك لن
ينتج إلا كلاما موزونا ذا معنى محدد وواضح، وهو يريد منه أن يغوص في اللاوعي
لالتقاط معان ثرة تتفق ومتطلبات العصر، وذلك ما عالجه في بقية القصيدة، يجدها
القارئ في ديوانه المذكور.
وقد اتفق النقاد كلهم على أن السمة
المميزة للقصيدة البعبلية هي: "التصديع"(8) فإذا فرغ منها القارئ وقد صدّع
فهي في الذروة، وهاهنا إشكال وهو إذا قرأها فأصيب بالشقيقة فقط، فهل تعد بين بين
أو هي في السفح؟ أما الكاتب الكيني تومساس فيرى أنها وسط(9) بينما يراها الناقد
النيجيري في ذيل الذروة، لأنها وإن لم يبلغ مفعولها مرتبة التصديع فقد أحدثت أثرا
إيجابيا! شيء خير من لا شيء!
المستقبلية:
وقد ظهرت المستقبلية ردا على
الماضوية والحالية، أما الأولى فتعنى بتصوير الأحاسيس تجاه أشياء ميتة في وجدان
الشاعر، سواء أعرفها أم لم يعرفها! وأما الثانية فهمها الحديث عن الأحاديث اليومية مثل الحروب
والاقتصاد والأمراض إلا الجوع والسياسة، وهذه القصيدة إذا مر عليها يوم فإنها تدخل
في نطاق الأولى بوجه أو بآخر، جهله من جهله وعرفه من عرفه.
وأول من أدخل شرارة المستقبلية إلى
الشعر البعبلي هو الشاعر السوداني عمر بوبكر، وذلك في قصيدته "فضلات"
نقرأ منها ما يأتي:
ليت شعري
هل يمتد عمري
حتى يحل يوم
أجل يوم...
فأنت ترى الشاعر المبجل غاص في
المستقبل، فرأى أن يوما غريبا سيأتي، ولذلك كرره، وما يجهله هو: هل سينسأ في أجله
حتى حلول اليوم الموعود أو لا؟ ما هذا اليوم؟
يوم يصدر فيه
الغربيون
فضلاتهم معلبة
لأرى كيف يبتاعها العرب:
أبالكيل أم بالميزان؟
أبالجملة أم بالتقسيط؟
والمستقبلية لا ترفض الماضي
وتتجاوزه وتقاطعه، بالعكس تتكئ عليه، وتربطه بالحال ثم تغوص بهما في المستقبل
لتستنتج ما يؤول إليه الأمر.
وهذا ما فعله شاعرنا، فتبين له أن
الوضع إذا استمر على ما هو عليه لا بد أن يأتي ذلك اليوم، لأن الجرابيع ما داموا
مستهلكين فحسب، والغربيون منتجون فلا بد أن يصدروا تلك الكنوز.
صدروا إلينا كل شيء فاستهلكناه حتى
أمراضهم العقلية والخلقية فلم تبق إلا محتويات بطونهم، ويومها آت لا محالة.
والمستقبلية كشعر الحداثة كله تكون
نثرا في الوقت الذي هي فيه نظم أو شعر على ضرب من المجاز، فالقصيدة
"فضلات" يمكن أن نحولها نثرا هكذا:
ليت شعري هل يمتد عمري حتى يحل
يوم.....إلخ ولن تخسر شيئا من مميزاتها
إلا الموسيقى.
وشعر الحداثة كله ينتظمه هذا
الحكم، لنأخذ مثلا قصيدة لأدونيس وهو أكبر شعراء الحداثة وما بعدها وما قبلها:
قالت صحرائي:
لا تألف
كن الغريب دائما حتى عن نفسك
وقل لوجهك في كل فجر
كأنني أراك للمرة الأولى.
نحولها إلى نثر هكذا: "قالت صحرائي: لا تألف كن الغريب
دائما حتى عن نفسك وقل لوجهك في كل فجر كأنني أراك للمرة الأولى".
ماذا خسرنا؟ لا شيء إلا المساحة، فلو أصدر ديوانا في ألف صفحة، ثم قمنا بعملية
التحويل لخسر تسعمائة صفحة كما خسر جائزة نوبل التي كفر ثم كفر ، وجدف للحصول
عليها ففاتته.
ولا أدري يا سيدي هل توافقني على
أن الأذواق فسدت، والأفكار تبلبلت، والجمال امتهن، والعقل أقصي، والحمق تمرد
واستعلى، والأرض في حاجة إلى طوفان يطهرها؟
وقد رأيت أن أرسل نفسي على سيجتها
لأباسطك بهذا الموضوع، وإن لم أعرف مدى تقبلك لهذه المباسطة، فإن وجدتني فيها أحمق
فأنح باللوائم على شعراء الحداثة وما بعدها، إذ هم الذين حمقوني، وإن اعتبرته
فكاهة فذلك ما أقصد إليه.
حاشية: هذه الرسالة نقلتها من مسودة فيها
تقديم وتأخير يسيران لأني لم أحتفظ بنسخة من الرسالة المحررة التي أرسلتها إلى
الأستاذ.
تابع...
وهل وصل ذلك اليوم؟
ردحذف